الملف الإخباري- في ساعات الفجر الأولى من يوم السبت، شهدت مدينة الزرقاء جريمة مروعة هزّت الرأي العام الأردني، حيث أقدم رجل على قتل زوجته بطريقة وحشية بعد أن عذبها لعدة أيام، في واقعة تعكس ممارسة وحشية وتتعظى كونها جريمة قتل، حيث تكشف عن بنية ثقافية واجتماعية تُعيد إنتاج العنف ضد النساء.
لقد تضمنت الحادثة ممارسات وسلوكيات خطيرة من قبل الجاني مثل حلق شعر الضحية بالكامل قبل طعنها حتى الموت، وحملت في طياتها دلالات #رمزية لا يمكن فهمها دون العودة إلى التحليل العميق الذي تقدمه الأنثروبولوجيا التفسيرية، والتي تركز على قراءة المعاني الثقافية والسياقات الاجتماعية التي تمنح الأحداث دلالاتها العميقة وتوصيفها العميق حسب كليفورد غيرتز.
العنف كأداء رمزي: ماذا يعني حلق الشعر؟
وفقًا للمفكر الأنثروبولوجي كليفورد غيرتز، فإن الأفعال العنيفة ليست مجرد تعبيرات فردية عن الغضب، إنما “نصوص ثقافية” تُكتب ضمن سياق اجتماعي يحدد دلالاتها، وفي هذا السياق، فإن حلق شعر الضحية قبل قتلها ليس تفصيلًا عشوائيًا أقدم عليهِ الجاني، إنما فعل رمزي يعكس محاولته إلغاء هوية المرأة وإخضاعها الكامل قبل إزهاق روحها.
تاريخيًا، ارتبط حلق شعر النساء بالإذلال في العديد من الثقافات، سواء كعقوبة اجتماعية أو كوسيلة للسيطرة، وهو ما يجعل هذا الفعل امتدادًا لسلوكيات ترى المرأة كجسد خاضع يمكن التلاعب به وفقًا لرغبات المعنف او الجاني.
التعذيب والقتل: عنف يتجاوز الجسد إلى المعنى
لم يكتفِ الجاني بقتل زوجته، ولكنه مارس ضدها التعذيب لعدة أيام، وهو ما يعكس نمطًا من العنف لا يهدف فقط إلى الإيذاء الجسدي، بل إلى إعادة ترسيخ هيمنة ذكورية متطرفة ترى المرأة كموضوع للإخضاع المطلق، وإن الطعنات المتعددة التي استهدفت أماكن مختلفة من جسد الضحية تعكس رغبة في “محوها” رمزيًا، وكأن القاتل لم يكن يريد فقط إنهاء حياتها، بل محو أي أثر لوجودها.
العنف كمنتج ثقافي: هل المشكلة فردية أم بنيوية؟
وفقا للانثروبولوجيا الرمزية، فإن العنف ليس مجرد فعل فردي، بل هو انعكاس لمنظومة اجتماعية تُعيد إنتاجه عبر الزمن، ففي المجتمعات التي تُكرس الهيمنة الذكورية وتسمح بوجود مساحات غير مرئية من العنف ضد النساء، يصبح العنف ضد المرأة فعلًا مبررًا ضمنيًا، حتى لو لم يكن مقبولًا قانونيًا، وفي بعض الحالات مرفوض اجتماعيًا لدى البعض، ورغم أن الأردن شهد تقدمًا في التشريعات المتعلقة بحماية النساء، إلا أن مثل هذه الجرائم تكشف عن الفجوة بين القانون والتطبيق الفعلي، حيث لا تزال بعض الأعراف تمنح الغطاء الاجتماعي للعنف الأسري.
كما أن الجاني، وفق التقارير، كان يمتلك سجلًا حافلًا بالأسبقيات، مما يطرح تساؤلات حول فعالية النظام القانوني في التعامل مع الأشخاص الذين لديهم تاريخ من العنف، فكيف يمكن لشخص معروف بسلوكياته العنيفة أن يظل جزءًا من النسيج الاجتماعي دون رقابة حقيقية تمنع تفاقم العنف إلى حد القتل؟
الإدمان كعامل مضاعف لا كسبب وحيد
رغم الإشارة إلى أن الجاني كان تحت تأثير المخدرات عند ارتكاب الجريمة، إلا أن هذا لا يُفسر العنف في جوهره، بل يجب فهمه كعامل محفّز ضمن بنية اجتماعية تسمح للعنف بالوجود أصلًا، فالإدمان قد يُضعف القيود النفسية على السلوك، لكنه لا يخلق نزعة العنف من العدم، مما يجعل من الضروري التركيز على العوامل الثقافية التي تجعل العنف ضد النساء أمرًا متكررًا بدلًا من اختزاله في أسباب فردية مثل تعاطي المخدرات.
الرأي العام والصدمة الجماعية
إن رد الفعل الشعبي القوي تجاه هذه الجريمة يعكس إدراكًا متزايدًا لخطورة العنف القائم على النوع الاجتماعي، ولكنه في الوقت ذاته يُشير إلى أن المجتمع لم يعد قادرًا على تجاهل هذه الظواهر كما كان يحدث سابقًا، ومن منظور الأنثروبولوجيا التفسيرية، فإن الصدمة الاجتماعية التي تُحدثها مثل هذه الجرائم تلعب دورًا في إعادة تشكيل الوعي المجتمعي، حيث يتم إعادة طرح الأسئلة حول مكانة المرأة في المجتمع، ومدى فعالية القوانين، والمسؤولية الجماعية في منع تكرار مثل هذه الجرائم.
من قراءة الجريمة إلى تفكيك المنظومة
إن تحليل جريمة الزرقاء من منظور الأنثروبولوجيا التفسيرية يُظهر أنها ليست مجرد مأساة فردية، لكنها تشير إلى نتيجة حتمية لبنية ثقافية واجتماعية تعيد إنتاج العنف بطرق مباشرة وغير مباشرة، فالجريمة لم تبدأ عند لحظة القتل، بل قبل ذلك بكثير، عندما تشكلت بيئة اجتماعية سمحت باستمرار العنف ضد المرأة دون محاسبة جدية.
إن مواجهة هذه الظواهر تتطلب أكثر من مجرد القبض على الجاني، وتستوجب مراجعة شاملة للخطاب الثقافي حول العنف الأسري، وتعزيز آليات الوقاية والحماية، وتغيير التصورات المجتمعية التي لا تزال ترى في المرأة كيانًا تابعًا يمكن إخضاعه حتى الموت.
إن كل جريمة تحمل رسالة، والسؤال الحقيقي هو: هل سنقرأ الرسالة بعمق ونفكك معانيها، أم سنكتفي بالصدمة الآنية ثم ننسى حتى وقوع المأساة التالية؟